كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



هذا فيه تأمل، فإنا إن جعلنا لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة على مذهب الشافعي أثرا في تخلية سبيلهم، فليس لهما اختصاص أصلا بكون مقيمهما أخا لنا في الدين، فإن مجرد الإسلام كاف في هذا المعنى ولا وجه له، إلا أن ذكرهما يدل على ما عداهما.
فإن الصلاة هي الوظيفة الكبرى المختصة بديننا وشرعنا.
والزكاة هي الوظيفة الشاقة على المكلفين وما كانت لهم عادة بهما.
فأبان أن الدخول فيهما دخول فيما سواهما.
وأبان أنه وإن تمسك بالكفر دهرا طويلا فإذا تاب صار في الحال بمثابة من كان معنا دهرا طويلا على الإسلام، حتى يجب علينا نصرته وموالاته.
قوله تعالى: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ} [الآية: 12].
يدل على أن المعاهد لا يقتل في عهده ما لم ينكث، وذكر الأمرين لا يقتضي توقف قتالهم على وجودهما، فان النكث يقتضي ذلك بانفراده عقلا وشرعا.
فالمراد به على هذا الوجه التمييز في الجمع، وتقديره:
فإن نكثوا حل قتالهم وإن لم ينكثوا وطعنوا في الدين مع الوفاء بالعهد حل قتالهم.
وهذا يقوي مذهب الشافعي، فإن المعاهد إذا جاهر بسب الرسول وطعن في الدين فإنه يحل قتله وقتاله.. وأبو حنيفة رأى أن مجرد الطعن في الدين لا ينقض به العهد، ولا شك أن دلالة الآية قوية فيما قاله الشافعي.
فإن قيل: فلم قال: فقاتلوا أئمة الكفر؟ ولم خصصهم بذلك مع وجود القتال من جميعهم؟
الجواب: أن من المحتمل أن يكون المراد به أن المقدم على الطعن في الدين ونكث العهد صار أصلا ورأسا في الكفر، فهو من أئمة الكفر على هذا التأويل، أو عنى به المقدمين والرؤساء منهم، وأن قتالهم قتال أتباعهم، وأبان أنهم لا يحترمون ولا يهابون.
وقد قيل: عنى به صناديد قريش، كأبي جهل وعتبة وشيبة وأمية ابن خلف.
وهذا بعيد: فإن الآية في سورة براءة، وحين نزلت وقرئت على الناس استؤصل شأفة قريش فلم يبق منهم إلا مسلم أو مسالم.
قوله تعالى: {إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ} أي لا أيمان لهم يفون بها، ويثبتون عليها.
قوله تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ}.
أبان به أن الغرض من قتال الكفار يجب أن يكون طلب إسلامهم، فمن رجا منهم الإسلام وتطلب تعريف الحق يجب السعي في بيان ذلك، لأن قوله: {لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ}، أي كي ينتهوا عن كفرهم وباطلهم وأذيتهم للمسلمين، وذلك يقتضي أن يكون الغرض من قتالهم، إما دفع ضررهم فينتهون عن قتالنا، وإما الانتهاء عن كفرهم بإظهار الإسلام.
وقد قيل: قوله: {أَئِمَّةَ الْكُفْرِ}، نزل في اليهود الذين غدروا برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم، ونكثوا ما كانوا أعطوا من العهود والأيمان، على أن لا يعينوا عليه أعداءه من المشركين، وهموا بمعاونة المنافقين والكفار على إخراج النبي عليه الصلاة والسلام، فأخبر أنهم بدءوا بالنكث والنقض، وقال بعده:
{أَلا تُقاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ من بعد عهدهم وَهَمُّوا} وكل ذلك محتمل.
قوله تعالى: {وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} [الآية: 16].
يقتضي لزوم اتباع المؤمنين، وترك العدول عنهم، كما يلزم اتباع النبي عليه الصلاة والسلام.
قوله تعالى: {ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ} [الآية: 17].
يدل على أن عمارة المسجد بالزيارة، والزيادة في بنائه، ودخوله محرم على الكفار، فكأنه قال:
إن بناء المسجد إنما يليق بالمسلم الذي يتوصل به إلى رضاء اللّه، فأما الكافر فإن عمله في ذلك محبط، ولم يؤمر بعمل محبط، وإنما أمر بعمل مقبول عند اللّه تعالى.
قوله تعالى: {لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ} [الآية: 23]:
يدل على أن حكم اللّه تعالى يغلب حكم القرب والنسب.
ويدل على أن تولي الكافر تعظيم، فلذلك أطلق تعالى فيمن يفعل ذلك أنه ظالم.
قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [الآية: 28].
صار بعض الناس إلى الحكم بنجاستهم حقيقة حتى نجسوا الماء بملاقاتهم.
وقال آخرون: لم يرد تعالى نجاستهم حقيقة وإنما أراد به جعله فاتحة لمنع قربهم من المسجد، كما تمنع من ذلك النجاسات، فمعناه: إنما المشركون كالشيء النجس، وتعليق منعهم أن يقربوا المسجد الحرام بكونهم أنجاسا، يقتضي أن يكون المراد به التشبيه لا التحقيق، والنجاسة من حقها صحة إزالتها بالماء وذلك لا يتأتى في الشرك.
وقال الشافعي: يدخل كل مسجد إلا المسجد الحرام خاصة، ويجوز للذمي دخول سائر المساجد عند أبي حنيفة من غير حاجة، والشافعي يعتبر الحاجة، ومع الحاجة لا يجوز دخول المسجد الحرام.
فأما الآية فظاهرها ألّا يقربوا المسجد الحرام، إلا أن قوله تعالى: {فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا}، يدل على أن المراد به الحج، والتقييد بالعام يدل على أن المراد به الحج الذي لا يتأتى إلا في العام.
ويدل عليه أيضا قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ}.
قوله تعالى: {قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ...} إلى قوله: {عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ} [الآية: 29].
اعلم أن مطلق قوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}.
وقوله عليه الصلاة والسلام: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا اللّه».
وقوله تعالى: {وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ}.
يدل كل ذلك على جواز قتل الكفار بأسرهم، ولو لم يكن إلا قوله تعالى: {اقتلوا المشركين}، لكان اللفظ عاما في حق أهل الكتاب وغيرهم.
وقد قال قائلون: إن عموم لفظ المشركين مقصور على عبدة الأوثان، فإن قوله تعالى فرق في اللفظ بين المشركين، وأهل الكتاب، والمجوس، بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا}.
فعطف المشركين على هذه الأصناف.
وقال آخرون: لما كان معنى الشرك موجود في مقالات هؤلاء الفرق من النصارى المشركين بعبادة اللّه تعالى عبادة المسيح عليه السلام.
والمجوس أشركت من حيث جعلت للّه تعالى ندا مغالبا، والصابئون هم عبدة الكواكب، فهم مشركون حقيقة، وقد انتظم اللفظ، فعلى هذا دل قوله: {المشركون} على نفي أخذ الجزية من هؤلاء كلهم، العرب والعجم على ما يقوله الشافعي.
ولأجل ذلك توقف عمر في أخذ الجزية من المجوس، وليسوا أهل الكتاب تحقيقا، فإنه سلب الكتاب منهم كما نقل عن عليّ، وإن صح هذا النقل عن علي، فليسوا أهل الكتاب في الحال، وكون آبائهم من أهل الكتاب لا يقتضي أمرا في حقهم، وقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم على ما نقله الرواة عنه: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب»، يدل على أنهم ليسوا أهل كتاب، إذا تبين ذلك، فأخذ الجزية من أهل الكتاب بحكم تخصيص الشرع إياهم من بين المشركين، لا يدل على مثله في المجوس، إذ لا يتناولهم لفظ مطلق لفظ الكتاب، لقوله تعالى: {إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا}.
فإن قيل: فقوله تعالى: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ}، يقتضي جواز أخذ الجزية منهم، ولا دلالة للفظ في حق غيرهم.
وقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}، إنما ورد في مشركي العرب، فإنه مرتب على قوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}.
وكذلك قوله: {وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً}.
وليس فيه دلالة على منع أخذ الجزية من عبدة الأوثان من العجم، والظاهر لا يقتضي في ذلك مشركي العجم منعا ولا إثباتا.
نعم، الظاهر يقتضي جواز أخذ الجزية من كافة أهل الكتاب عربا كانوا أو عجما، وهذا هو الحق عندنا، وليس يظهر عن هذا السؤال جواب؟
نعم يمكن أن يقال: إن الأصل ألا تقبل الجزية من الكفار إلا فيما خص، وذلك خروج عن موجب الظاهر ويتعلق بنوع آخر.
واعلم أن قوله تعالى: {قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} إلى قوله في سياق الآية: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ}.
توهم قوم أنه منصرف إلى جميع الكفار وهم أصناف:
فمنهم الذين لا يؤمنون باللّه ولا باليوم الآخر، وليس ذلك صفة أهل الكتاب، فإنهم يؤمنون باللّه وباليوم الآخر.
وقوله: {وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ}، صفة غير أهل الكتاب وكثير من الأحكام.
وقوله: {وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ} هو وصف أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد.
وذكروا أن ظاهر هذا يقتضي أخذ الجزية من أصناف الكفار، إلا ما قام دليل الإجماع عليه في حق مشركي العرب، وهذا باطل، فإن اللّه تعالى قال: {قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}، فوصف الذين يقاتلون بأوصاف، فلتكن الأوصاف راجعة إلى الضمير المذكور أوّلا.
وقوله: {لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}، وصف لهم.
{وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} يرجع إليهم أيضا.
وقوله: {وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ}، ينبغي أن يكون نعتا للذين.
فإذا لم يقولوا ذلك فقد نعت قوما بنعت، وذكر بعده نعتا لا لمنعوت متقدم، وذلك يستحيل قطعا.
فلا جرم، رجع كل من يرجع إلى فهم، ونحصل إلى أن الآية نزلت في حق أهل الكتاب.
يبقى أن يقال: كيف وصفهم بأنهم لا يؤمنون باللّه ولا باليوم الآخر؟
قيل، يحتمل أن يقال: إنهم بمنزلة الذين لا يؤمنون في باب الذم، ومثله في من يوالي الكفار من المؤمنين، ولو كانوا يؤمنون باللّه والنبي.
ومعناه أنهم لو كانوا ينتفعون بالإيمان باللّه، ما اتخذوهم أولياء.
وقد قيل: معناه أنهم لم يؤمنوا عن يقين ومعرفة.
وقد قيل: لا يؤمنون بذلك على ما يؤمن به المؤمنون.
وقد قيل: لم تكمل معرفتهم باللّه تعالى.
قوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ}.
فالجزية عطية مخصوصة.
قيل سميت جزية لأنها جزاء على الكفر، وقيل اشتقاقها من الأجزاء بمعنى الكفاية، أي أنها تكفي من يوضع ذلك فيه من المسلمين، وتجزى عن الكافر في عصمته.
قوله تعالى: {وَهُمْ صاغِرُونَ}، الصغار هو النكال، وصف بذلك لأنه يصغر صاحبه، بأن يدفعوها عن قيام، والآخذ لها قاعد، ويعطيها بيده مشيا إلى الوالي الطالب.
وفائدة هذين الشرطين الفرق بين ما يوجد منهم مع كفرهم، وبين ما يوجد من المسلمين من الزكاة، فكما يقترن بالزكاة المدح والإعظام والدعاء له، فيقترن بالجزية الذل والذم، ومتى أخذت على هذا الوجه، كان أقرب إلى ألا يثبتوا على الكفر لما يتداخلهم من الأنفة والعار، وما كان أقرب إلى الإقلاع عن الكفر فهو أصلح في الحكمة، وأولى بوضع الشرع.
وعلى هذا، إذا قال القائل: كيف يجوز العدول عن استئصال الكفار وتطهير الأرض منهم إلى تعزيزهم في ديارنا ونصرتهم بأنفسنا وأموالنا مع عظيم كفرهم، ومع قوله تعالى: {تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ} ثم يعصم ماله بقدر يسير، وهل هذا إلّا كالرضا بكفرهم، وتمهيد أسبابه لهم.
فيقال في إبطال ذلك: إن قتل الكافر مؤيس من التوبة، وإذا ترك بشريطة الجزية فيلحقه من الذل ما يضجره ويحمله على الإسلام، هذا مع نفع يعود إلى المسلمين، ومع مخالطة الكافر للمسلمين الداعية له إلى تدبر أدلة الإسلام، وهذا المعنى لا فرق فيه بين طائفة وطائفة، إلا أنه يمكن أن يقال:
إن قتل من لا كتاب له أقرب إلى تعظيم أمر الدين، ولأن أهل الكتاب أقرب إلى تدبر معاني الكتاب لتقارب ما بين الأديان وتشاهدها على صدق نبينا صلّى اللّه عليه وسلم، فيجوز أن يكون الأصحاب بالجزية أقرب إلى إيمان أهل الكتاب منه إلى غير أهل الكتاب.
وقوله تعالى: {تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ}، تعظيم فيما يتعلق بالآخرة، ورجوع وبال كفره عليه في الميعاد، ومع هذا فيمهل الشرع أسبابا هي داعية إلى صلاح حاله في ماله.